أخر الأخبار

المسؤولية المدنية المترتبة على حوادث السيارات ذاتية القيادة في الأردن

المسؤولية المدنية المترتبة على حوادث السيارات ذاتية القيادة في الأردن

 

يولي المحامي والباحث القانوني محمد حمد عبدالله السرحان اهتمامًا متزايدًا بتقنيات الذكاء الاصطناعي وتطبيقاتها في القطاع القانوني، وخاصة ما يتعلق بالمركبات ذاتية القيادة وما تثيره من إشكاليات ومسؤوليات جديدة. وقد دفعه هذا الاهتمام إلى متابعة التطورات التشريعية عالميًا وإقليميًا، وتحليل آثار هذه التقنيات على قواعد المسؤولية المدنية وبيئة التقاضي. كما يحرص السرحان على دراسة العلاقة المتنامية بين الذكاء الاصطناعي والمحاماة، وما يفرضه من تحديات وفرص على المهنة. وانطلاقًا من هذا التوجه البحثي، جاءت هذه الدراسة حول المسؤولية المدنية المترتبة على حوادث السيارات ذاتية القيادة في الأردن، محاولةً سدّ الفجوة القانونية القائمة، وبيان الحاجة إلى تنظيم تشريعي معاصر يواكب هذا التطور المتسارع.

يُعدّ القانون الركيزة الأساسية التي تقوم عليها بنية الدولة الحديثة، فهو الأداة الضامنة لإرساء مبادئ العدالة، وتنظيم العلاقات بين الدولة ومكوناتها من أفراد ومؤسسات، وتحقيق السلم والأمان المجتمعي. ويُشكّل التطبيق الفعّال لأحكام التشريعات النافذة عاملاً جوهريًا في بناء مجتمع متماسك ومتوازن. وبالنظر إلى التحديات المتسارعة التي يشهدها العالم في شتى الميادين، تبرز الحاجة الملحّة إلى تطوير المنظومة القانونية بما يواكب هذه المستجدات، كلٌ بحسب اختصاصه وموقعه، لتجنّب ما قد ينشأ من أزمات مستقبلية، وتعزيز الاستقرار القانوني الذي يُفضي بدوره إلى استقرار اقتصادي..

وفي هذا السياق، ومع بروز تقنية المركبات ذاتية القيادة وما تطرحه من إشكاليات قانونية واقتصادية وبيئية، أضحى من الضروري التصدّي لهذه التحديات من زاوية قانونية محكمة، لاسيما في ظل غياب الأطر التشريعية الصريحة. وهنا تبرز جملة من التساؤلات التي تستدعي الإجابة، وفي مقدّمتها: من يُسأل قانونًا عن الأضرار الناجمة عن حوادث السيارات ذاتية القيادة في القانون الأردني؟ وما هو الأساس القانوني للمسؤولية المدنية في هذه الحالات؟ وكيف تُضمن حقوق المتضررين في التعويض وفقًا للقواعد القانونية المعمول بها؟

ومع التقدّم المتسارع في تقنيات الذكاء الاصطناعي، بدأت السيارات ذاتية القيادة – وهي مركبات تُدار بأنظمة ذكية دون تدخل بشري مباشر – تشق طريقها إلى الواقع، لتُحدث نقلة نوعية في قطاع النقل. غير أن هذا التحول يُثير العديد من الإشكاليات القانونية، وسنسعى في هذا المقال الموجز إلى استكشاف مدى كفاية القانون المدني الأردني في التعامل مع هذه الحوادث المستحدثة..

إذ لا يوجد حتى الآن تشريع مباشر يُعالج المسؤولية المدنية عن حوادث السيارات ذاتية القيادة أو يُحدد المسؤول عنها، حيث لا يزال القانون الأردني يقتصر على معالجة حوادث المركبات التقليدية. لذلك لا مفر من الرجوع إلى القواعد العامة للمسؤولية المدنية في القانون المدني الأردني، سواء في نطاق المسؤولية العقدية أو التقصيرية، مع محاولة كشف الفجوات القانونية الناجمة عن غياب النصوص الخاصة، لا سيما في الحالات التي تغيب فيها مسؤولية السائق البشري..

تُثار في حوادث السيارات ذاتية القيادة إشكالية قانونية جوهرية تتعلق بتحديد الطرف المسؤول عن وقوع الضرر، ويُطرح التساؤل الآتي::

هل يُسند الخطأ إلى مالك المركبة؟ أم إلى الشركة المصنّعة؟ أم إلى مبرمج النظام الذكي أو مطوّر البرمجيات؟ أم إلى الوكيل المعتمد أو الموزّع؟.

 

وفي ظل غياب نصوص تشريعية صريحة تعالج هذه الحالة، يبرز فراغ قانوني يُعقّد من إمكانية تطبيق القواعد التقليدية للمسؤولية المدنية. الأمر الذي يضع المتضرر في موقف قانوني صعب، ويحول دون تحديد المسؤول بوضوح، مما ينعكس سلبًا على إمكانية المطالبة بالتعويض العادل والفعال.

تُعد كلٌّ من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة من الدول السباقة إقليميًا في تطوير تشريعات متقدمة تنظم استخدام المركبات ذاتية القيادة. فقد أصدرت المملكة العربية السعودية اللائحة الفنية للسيارات ذاتية القيادة، التي عالجت العديد من الإشكاليات القانونية، وفي مقدّمتها تحديد المسؤول عن الحوادث الناتجة عن هذا النوع من المركبات. وقد بيّنت اللائحة بدقة الجهات التي يمكن أن تتحمّل المسؤولية، وهم: الصانع، والممثل المعتمد، والمستورد، والموزّع، ، مما أسهم في بناء منظومة قانونية أكثر عدالة وشفافية. كما استخدمت اللائحة مصطلح “سلسلة الإمداد” لتحديد مسؤوليات كل الجهات في مختلف مراحل تصنيع المركبة وتداولها حتى وصولها إلى المستهلك النهائي..

أما في الإمارات العربية المتحدة، فقد صدر قانون تشغيل المركبات ذاتية القيادة في إمارة دبي رقم (9) لسنة 2023، وهو تطور تشريعي محوري. حيث بيّن القانون شروط تشغيل المركبات وترخيصها، وحدد التزامات كافة الأطراف، بما فيهم المشغّل، والوكيل، والراكب، والصانع، ومبرمج النظام أو مزود التكنولوجيا، وحدد بدقة المسؤول عن تعويض الأضرار، وفق قواعد المسؤولية المدنية.

 

يعاني الإطار التشريعي الأردني من غياب نصوص قانونية خاصة تُنظّم استخدام المركبات ذاتية القيادة وتُحدّد المسؤوليات المدنية الناشئة عن حوادثها. ونتيجة لذلك يتم اللجوء إلى القواعد العامة للمسؤولية المدنية في حالة استخدام المركبات ذاتية القيادة و التي قد لا تواكب طبيعة الحوادث الناتجة عن أنظمة ذكية لا يُنسب إليها الخطأ بالمعنى التقليدي. ويُفضي هذا الفراغ التشريعي إلى صعوبات عملية في تحديد المسؤول وإثبات عناصر المسؤولية، مما يُهدّد حق المتضرر في التعويض، وقد يُعيق إدماج هذه التقنية في السوق الأردني بسبب غياب بيئة قانونية واضحة تضمن الحقوق وتُحدّد الالتزامات.

وعليه وحسب قواعد القانون المدني الأردني تقوم المسؤولية العقدية في حوادث السيارات ذاتية القيادة عند وجود علاقة تعاقدية بين مالك المركبة وأحد الأطراف، مثل الصانع أو الوكيل أو الموزّع. ووفقًا للمادة (87) من القانون المدني الأردني، يرتّب العقد التزامًا على البائع أو المورّد بتسليم مركبة صالحة للاستعمال، بما يشمل صلاحية النظام الآلي. ويُسأل المتعاقد عقديًا عن أي ضرر ناتج عن خلل تقني، ما لم يُثبت أن السبب يعود إلى قوة قاهرة أو خطأ طرف ثالث. وإذا تضمّن العقد إشارات إلى أن النظام البرمجي من تطوير جهة خارجية، فإن مطوّر البرمجيات يُعتبر جزءًا من سلسلة الإمداد، ويمكن مساءلته عقديًا إذا ثبت أن الخلل ناتج عن عيب في البرنامج.

 

كما تُطبّق المسؤولية التقصيرية عند عدم وجود عقد بين المتضرر والطرف المتسبّب بالضرر، استنادًا إلى المادة (256) من القانون المدني الأردني، التي تُلزم كل من يُلحق ضررًا بالغير ولو كان غير مميّز، بضمان الضرر. ويُشترط لقيام هذه المسؤولية توافر الخطأ، والضرر، والعلاقة السببية. وتظهر تطبيقاتها في عدّة صور، منها:

 

اولا: “مسؤولية الفاعل عن فعله الشخصي، حيث يُحاسب من قام بتفعيل نظام القيادة الذاتية مع العلم بوجود تحذيرات أو موانع من استخدامه، مما يُعد إهمالًا أو تقصيرًا يؤدي إلى وقوع الضرر. وقد يكون هذا الفاعل هو مالك المركبة أو مطور البرمجيات أو الصانع، حسب ظروف كل حالة ونوع الخطأ المرتكب.”

ثانيا: “مسؤولية المتبوع عن التابع، كما في حال كانت المركبة مملوكة لشركة أو موزّع أو وكيل، وتُستخدم في نطاق عملهم، فتُعد المركبة تابعة لهم قانونًا، ويُسأل من يتولى إدارتها أو توزيعها عن الأضرار التي تنتج عنها، طالما كانت في عهدته وتحت رقابته، ولو لم يكن هناك تدخل مباشر في الواقعة.”

ثالثا:المسؤولية عن فعل الغير، وتشمل الصانع أو الوكيل أو مطوّر البرمجيات، بصفتهم الجهات التي تمارس رقابة فنية أو تحكّمًا في تصميم النظام الذكي، ما يجعلهم محلاً للمساءلة التقصيرية حال وقوع خطأ برمجي يُفضي إلى ضرر

 

 

بعد دراسة المسؤولية المدنية الناشئة عن حوادث السيارات ذاتية القيادة ، يتبين أن هناك فراغًا تشريعيًا واضحًا في القانون الأردني بشأن تنظيم هذه المسؤولية. كما أن القواعد العامة للمسؤولية المدنية، سواء العقدية أو التقصيرية، لا توفر إجابات دقيقة وشاملة للإشكاليات القانونية الناشئة، خصوصًا في الحالات التي يكون فيها الخلل ناتجًا عن أنظمة تقنية معقدة أو برمجيات الذكاء الاصطناعي، بالإضافة إلى ذلك، يساهم غياب تشريع خاص ومتكامل في تثبيط المستثمرين والمطورين، ويقلل من ثقة المستخدمين في اعتماد هذه التقنية ضمن السوق الأردني. ومقارنة بالتجارب التشريعية في المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، يتضح غياب نصوص قانونية متخصصة في الأردن حتى الآن، مما يبرز وجود فجوة تشريعية ملحة تستدعي المعالجة لمواكبة التطورات في هذا المجال..

 

وبناءً على النتائج التي تم التوصل إليها، تتضح الحاجة الملحّة إلى سن تشريع اردني خاص ينظم استخدام المركبات ذاتية القيادة، ويوضح المسؤوليات المدنية بشكل صريح، مع شمول كافة أطراف سلسلة الإمداد، بما في ذلك الصانع، والوكيل، والموزّع، ومطور البرمجيات. ومن الضروري الاستفادة من التجارب التشريعية الرائدة في المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، مع تكييفها بما يتناسب مع الخصوصية القانونية الأردنية. كما ينبغي تشجيع الجامعات ومراكز البحوث في الأردن على دراسة هذا الموضوع من منظور قانوني معمق، مع التركيز على المسؤولية الناشئة عن البرمجيات المستخدمة في هذه المركبات.

المحامي والباحث القانوني : محمد حمد عبدالله السرحان

hopelawyer2030@gmail.com

مقالات ذات صلة